سورة الفرقان - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


وقوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} إضرابٌ وانتقال عن الإنكار المذكُور إلى إنكارِ حُسبانِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم ممَّن يسمعُ أو يعقل حسبما ينبىءُ عنه جِدُّه عليه الصَّلاةُ والسلام في الدَّعوةِ واهتمامُه بالإرشاد والتَّذكيرِ لكن لا على أنَّه لا يقعُ كالأوَّلِ بل على أنَّه لا ينبغي أنْ يقعَ أي بل أتحسب أنَّ أكثرهم يسمعون ما تتلُو عليهم من الآيات حقَّ السَّماعِ أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزَّاجرةِ عن القبائح الدَّاعيةِ إلى المحاسن فتعتنِي بشأنِهم وتطمعُ في إيمانهم. وضميرُ أكثرَهم لمَن، وجمعُه باعتبارِ معناهَا كما أنَّ الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبار لفظِها، وضميرُ الفعلينِ لأكثرَ لاَ لِمَا أُضيف هُو إليهِ. وقوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} إلخ جملةٌ مستأنفة مسوقة لتقرير النَّكيرِ وتأكيدِه وحسم مادة الحُسبانِ بالمرَّةِ أي ما هم في عدم الانتفاعِ بما يقرعُ آذانَهم من قوارع الآياتِ وانتفاء التَّدبرِ فيما يشاهدونَهُ من الدَّلائلِ والمُعجزاتِ إلا كالبهائمِ التي هي مثلٌ في الغفلةِ وعَلَمٌ في الضَّلالةِ {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} منها {سَبِيلاً} لما أنها تنقادُ لصاحبها الذي يعلِفها ويتعهدُّها وتعرف مَن يُحسِن إليها ممَّن يُسيء إليها وتطلبُ ما ينفعها وتجتنبُ ما يضرُّها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوِي إلى معاطنِها، وهؤلاءِ لا ينقادونَ لربِّهم وخالقِهم ورازقِهم ولا يعرفون إحسانَهُ إليهم من إساءةِ الشَّيطانِ الذي هو أعدى عدوِّهم ولا يطلبون الثَّوابَ الذي هو أعظمُ المنافع ولا يتَّقون العقابَ الذي هو أشدُّ المضارِّ والمهالك ولا يهتدون للحقِّ الذي هو المشرب الهنيُّ والمورد العذبُ الرَّويُّ لأنَّها إنْ لم تعتقِد حقَّاً مستتبِعاً لاكتساب الخيرِ لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقترافِ الشَّرِّ بخلاف هؤلاء حيث مهّدوا قواعدَ الباطلِ وفرَّعُوا عليها أحكامُ الشُّرورِ، ولأنَّ أحكامَ جهالتِها وضلالتها مقصورةٌ على أنفسها لا تتعدَّى إلى أحدٍ وجهالةُ هؤلاء مؤدِّيةٌ إلى ثوران الفتنةِ والفسادِ وصدِّ النَّاسِ عن سَننِ السَّدادِ وهيجان الهَرْجِ والمَرْجِ فيما بين العباد ولأنَّها غيرُ معطلةٍ لقوَّةٍ من القُوى المُودَعة بل صارفة لها إلى ما خُلقت هي له فلا تقصيرَ من قبلها في طلبِ الكمالِ، وأمَّا هؤلاءِ فهم مُعطِّلون لقواهم العقلية مضيِّعون للفطرةِ الأصليةِ التي فُطر النَّاسُ عليها مستحقُّون بذلك أعظم العقابِ وأشدَّ النَّكالِ.


{أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ} بيانٌ لبعضِ دلائل التَّوحيدِ إثرَ بيانِ جهالةِ المُعرِضينِ عنها وضلالتهم. والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والهمزةُ للتَّقريرِ. والتَّعرضُ لعُنوان الرُّبُوبِّيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللإيذانِ بأنَّ ما يعقُبه من آثارِ ربوبيَّتِه ورحمتِه تعالى أي ألم تنظُر إلى بديعِ صُنعه تعالى {كَيْفَ مَدَّ الظل} أي كيف أنشأ ظلَّ أيَّ مُظَلَ كان من جبلٍ أو بناءٍ أو شجرةٍ عند ابتداء طلوع الشَّمسِ ممتداً لا أنَّه تعالى مدَّهَ بعد أنْ لم يكن كذلك كما بعدَ نصفِ النهار إلى غروبها فإنَّ ذلك مع خُلوِّه عن التَّصريح بكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثِه يأباهُ سياقُ النَّظمِ الكريمِ. وأما ما قيل من أنَّ المرادَ بالظِّل ما بين طُلوعِ الفجرِ وطُلوع الشَّمسِ وأنه أطيبُ الأوقاتِ فإنَّ الظُّلمةَ الخالصةَ تنفِرُ عنها الطِّباعُ وشعاع الشمس يسخِّنُ الجوَّ ويبهر البصرَ ولذلك وَصَف به الجَّنةَ في قوله تعالى: {وَظِلّ مَّمْدُودٍ} فغيرُ سديد إذ لا ريب في أنَّ المرادَ تنبيهُ النَّاسِ على عظيم قُدرة الله عزَّ وجلَّ وبالغِ حكمتِه فيما يشاهدونَه فلا بدَّ أنْ يُرادُ بالظلِّ ما يتعارفونه من حالةٍ مخصوصةٍ يشاهدونها في موضعٍ يحول بينه وبين الشَّمسِ جسمٌ كثيفٌ مخالفةً لما في جوانبه من مواقعِ ضحِّ الشَّمسِ وما ذُكر وإن كانَ في الحقيقةِ ظلاَّ للأفق الشرقيِّ لكنَّهم لا يعدونه ظلاً ولا يصفونه بأوصافهِ المعهودةِ ولعلَّ توجيه الرُّؤية إليه سبحانه وتعالى مع أنَّ المرادَ تقريرُ رؤيته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لكيفيَّةِ مدِّ الظِّلِّ للتنبيهِ على أنَّ نظرَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غيرُ مقصورٍ على ما يُطالعه من الآثارِ والصَّنائعِ بل مطمح أنظارِه معرفةُ شؤون الصَّانعِ المجيدِ. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً} جملةٌ اعترضتْ بين المعطوفين للتَّنبيِه من أول الأمرِ على أنَّه لا مدخل فيما ذكر من المدِّ للأسباب العاديَّةِ وإنَّما المؤثر فيها المشيئةُ والقدرةُ، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء أي ولو شاء سكونَه لجعله ساكناً أي ثابتاً على حالِه من الطُّولِ والامتدادِ وإنما عُبِّر عن ذلك بالسُّكونِ لما أنَّ مقابلَه الذي هو تغيُّر حاله حسب تغُّيرِ الأوضاعِ بينَ المظلِّ وبين الشَّمسِ يُرَى رأيَ العينِ حركة وانتقالاً وحاصلُه أنه لا يعتريهِ اختلافُ حالٍ بأن لا تنسخه الشَّمسُ، وأمَّا التَّعليلُ بأنْ يجعل الشَّمسَ مقيمةً على وضع واحد فمداره الغفُول عمَّا سِيق له النَّظمُ الكريم ونطقَ به صريحاً من بيان كمال قُدرته القاهرة وحِكمته الباهرة بنسبة جميعِ الأمور الحادثة إليه تعالى بالذَّاتِ وإسقاط الأسباب العاديَّةِ عن رُتبة السَّببيَّةِ والتَّاثيرِ بالكُلِّيةِ وقصرِها على مجرَّدِ الدِّلالةِ على وجود المسبَّبات لا بذكر قُدرته تعالى على بعض الخوارق كإقامةِ الشَّمسِ في مُقام واحدٍ على أنَّها أعظمُ من إبقاء الظلِّ على حالِه في الدِّلالةِ على ما ذُكر من كمال القُدرةِ والحكمة لكونِه من فُروعها ومُستتبعاتها فهي أَوْلَى وأحقُّ بالإيراد في معرضِ البيانِ.
وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} عطفٌ على مدَّ داخلٌ في حُكمه أي جعلناها علامةً يستدلُّ بأحوالها المتغيِّرة على أحوالِه من غير أنْ يكونَ بينهما سببيّة وتأثيرٌ قطعاً حسبما نطقَ به الشَّرطيةُ المعترضة. والالتفاتُ إلى نون العظمةِ لما في الجعلِ المذكورِ العاري عن التَّأثيرِ مع ما يشاهد بين الشَّمسِ والظلِّ من الدَّورانِ المُطَّردِ المنبىءِ عن السَّببيّةِ من مزيد دلالة على عظمِ القُدرةِ ودقة الحكمةِ، وهو السرُّ في إيراد كلمة التَّراخي.


وقولُه تعالى: {ثُمَّ قبضناه} عطف على مدَّ داخل في حكمه وثمَّ للتَّراخي الزَّماني لما أنَّ في بيان كون القبضِ والمدِّ مرتَّبينِ دائرينِ على قطبِ مصالحِ المخلوقاتِ مزيدَ دلالةِ على الحكمة الرَّبانيَّةِ، ويجوز أنْ تكونَ للتَّراخي الرُّتبي أي أزلناه بعد ما أنشأناهُ ممتدَّاً ومحوناه بمحض قُدرتنا ومشيئتنا عند إيقاعِ شعاعِ الشَّمس موقعَه من غيرِ أنْ يكونَ له تأثيرٌ في ذلك أصلاً، وإنَّما عبَّر عنه بالقبضِ المُنبىءِ عن جمعِ المنبسطِ وطيِّه لمَا أنَّه قد عبَّر عن إحداثِه بالمدِّ الذي هو البسطُ طولاً وقوله تعالى: {إِلَيْنَا} للتَّنصيصِ على كونِ مرجعِه تعالى كما أنَّ حدوثَه منه عزَّ وجلَّ {قَبْضاً يَسِيراً} أي على مهل قليلاً قليلاً حسب ارتفاعِ دليله على وتيرة معيَّنةٍ مطَّردةٍ مستتبعة لمصالحِ المخلوقاتِ ومرافقها، وقيل إنَّ الله تعالى حين بنى السَّماءَ كالقُبَّةِ المضروبة ودَحَا الأرضَ تحتها ألقتِ القُبَّةُ ظلَّها على الأرضِ لعدمِ النيِّر وذلك مدُّه تعالى إيَّاه ولو شاء لجعله ساكناً مستقرَّاً على تلك الحالةِ ثم خلق الشَّمسَ وجعلها على ذلك الظلِّ أي سلَّطها عليه ونصَبها دليلاً متبوعاً له كما يتبعُ الدَّليل في الطَّريقِ فهو يزيدُ بها وينقصُ ويمتدُّ ويقلصُ ثم نسخه بها فقبضه قبضاً سهلاً يسيراً غيرَ عسيرٍ أو قبضاً سهلاً عند قيام السَّاعةِ بقبضِ أسبابهِ وهي الأجرامُ التي تلقي الظلَّ فيكون قد ذُكر إعدامُه بإعدامِ أسبابِه كما ذُكر إنشاؤه بإنشائِها ووصفه باليسرِ على طريقةِ قوله تعالى: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} وصيغة الماضي للدِّلالةِ على تحقيقِ الوقوع.
{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً} بيانٌ لبعض بدائعِ آثارِ قُدرته تعالى وحكمتِه وروائعِ أحكامِ رحمتِه ونعمتِه الفائضِة على الخلق. وتلوينُ الخطابِ لتوفيةِ مقامِ الامتنانِ حقَّه. واللامُ متعلِّقةٌ بجعلَ وتقديمُها على مفعولَيْه للاعتناءِ ببيان كونِ ما يعقبه من منافعِهم. وفي تعقيبِ بيانِ أحوالِ الظلِّ بيانَ أحكامِ اللَّيلِ الذي هُو ظلُّ الأرضِ من لُطف المسلكِ ما لا مزيدَ عليه، أي هو الذي جعلَ لكُم اللَّيلَ كاللِّباسِ يسترُكم بظلامِه كما يسترُكم اللِّباسُ {والنوم سُبَاتاً} أي وجعلَ النَّومَ الذي يقعُ في اللَّيلِ غالباً قطعاً عن الأفاعيل المختصَّة بحال اليقظةِ عبَّر عنه بالسُّباتِ الذي هو الموتُ لما بينها من المُشابهةِ التَّامةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ وعليه قوله تعالى: {وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل} وقوله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} أي زمانَ بعثٍ من ذلك السُّباتِ كبعثِ الموتى على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه أو نفسُ البعثِ على طريق المبالغة وفيه إشارةٌ إلى أنَّ النَّومَ واليقظةَ أنموذجٌ للموتِ والنُّشورِ. وعن لُقمانَ عليه السَّلامُ: يا بُنيَّ كما تنامُ فتوقظُ كذلك تموتُ وتنشرُ.
{وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح} وقرئ بالتَّوحيدِ على أنَّ المرادَ هو الجنسُ {بَشَرًا} تخفيفُ بُشُرٍ جمع بَشُورٍ أي مُبشِّرينَ. وقرئ: {بُشْرى}. وقرئ: {نُشْراً} بالنُّونِ جمعُ نَشُورٍ أي ناشرات للَّسَّحابِ وقرئ بالتَّخفيفِ وبفتحِ النُّونِ أيضاً على أنَّه مصدرٌ وُصف به مبالغةً. وقولُه تعالى: {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} استعارةٌ بديعةٌ أي قُدامَ المطرِ. والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء طَهُوراً} لإبرازِ كمالِ العنايةِ بالإنزالِ لأنَّه نتيجةُ ما ذُكر من إرسالِ الرِّياحِ أي أنزلنا بعظمتِنا بما رتَّبنا من إرسالِ الرِّياح من جهةِ الفوقِ ماءً بليغاً في الطَّهارةِ، وما قيل إنَّه ما يكون طاهراً في نفسه ومطهراً لغيرهِ فهو شرح لبلاغته في الطَّهارةِ كما ينبُىء عنه قوله تعالى: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} فإنَّ الطَّهورَ في العربيةِ إمَّا صفةٌ كما تقول ماء طهور أو اسمٌ كما في قوله عليه الصَّلاةُ والسلامُ «التُّرابُ طهورُ المؤمنِ» وقد جاء معنى الطَّهارةِ كما في قولك تطهرتُ طَهوراً حسناً كقولك وَضُوءاً حسناً ومنه قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لا صلاةَ إلا بطَهورٍ» ووصف الماءِ به إشعارٌ بتمام النِّعمةِ فيه وتتميم للنِّعمةِ فيما بعده فإنَّ الماءَ الطَّهورَ أهنأُ وأنفعُ ممَّا خالطه ما يزيل طهوريَّتَه وتنبيه على أنَّ ظواهرهم لما كانت ممَّا ينبغي أنْ يطهروها فبواطنُهم أحقُّ بذلك وأولى.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11